أهي خاتمة جيل نهضة ما بعد الاستقلال؟
بقلم الأستاذ : محمدن ولد اشدو
قليلون هم الذين ما يزالون على قيد الحياة من جيل الاستقلال المجيد، وقد نعوا منذ أيام ركنا عزيزا آخر من أركانه؛ هو معالي الوزير معروف ولد الشيخ عبد الله رحمه الله. ونسأل الله أن يمد في حياة الباقين؛ إنه سميع مجيب. وقد ترك لنا عظماء ممن قضوا نحبهم من ذلك الجيل مساهمات قيمة ومعتبرة في بناء ذاكرة جمعية، لا تقوم وتستقيم الدول والأمم والأقوام إلا بها. منها – على سبيل المثال لا الحصر- موسوعة الشيخ المختار ولد حامد،ٌ وكتاب الرئيس المختار ولد داداه “موريتانيا على درب التحديات”. وكانت للفقيدين الكبيرين محمد ولد الشيخ ولد أحمد محمود وأحمد بابَ مسكه مساهمات أخرى، وإن كانا أقرب إلى المنهج التفكيكي حسب رأي بعض الباحثين! وحال الموت – مع كامل الأسى والأسف- دون أن تكتمل أعمال العلامة العبقري والمؤرخ القدير محمد ولد مولود ولد داداه، التي نتمنى أن يقيض لها الله من يجمعها وينشرها قبل أن تندثر. كما نتمنى أيضا أن يترك لنا من لا يزالون على قيد الحياة من ذلك الجيل شيئا معتبرا آخر يساهم في رفد صرح الذاكرة الوطنية!
وها هي ذي أيضا عجلة الفناء، وسنة الله في خلقه تدور على جيل نهضة ما بعد الاستقلال، فيفسح المجال لأجيال صدر القرن الواحد والعشرين، وما بعد إعادة التأسيس والبناء، وإشراك وخدمة الشعب، وتداول السلطة سلميا.
وهذه أسماء بعض أبرز الراحلين إلى جوار ورحمة ربهم من ذلك الجيل: سيدي محمد ولد سميدع، با عثمان، جدو ولد السالك، با محمود، فاضل أمين، عبدو ولد أحمد، اباه ولد الرباني، الاشياخ ولد ودادي، محمد ولد دداه، الشيخ محمد سالم ولد عدود، محمد سالم ولد العتيق، محمد ولد مني، يبه ولد الشيخ البناني، عبد القادر ولد أحمد، التلميدي ولد سيدينا، يحي ولد عمر، محمدن ولد أنحوي، جغانا امبو، محمد المامي ولد لبات، سك دنبا، سي ممدو، سيد أحمد ولد ابنيجاره، محمد سالم ولد لكحل، محمد ولد الحيمر، إسلمو ولد سيدي حمود، أحمد ولد خباه، التراد ولد ديداه، السالكه بنت اسنيد، محمد محمود ولد اماه، محمد المصطفى ولد بدر الدين، حبيب الله ولد عبدو، محمد يحظيه ولد ابريد الليل.. وها هم ينعون لي وأنا أكتب هذه السطور أحمد ولد الوافي… رحمهم الله جميعا وأسكنهم فسيح جناته..
ومعذرة إذا أسهبت في سرد أسماء من تفضلت شاشة ذاكرتي الضعيفة بعرضهم؛ فلكل واحد منهم مكان راسخ في قلب الوطن، وأقل ما يجب علينا القيام به اتجاههم وفاء لهم وعرفانا بما قدموا للوطن، هو شكرهم وتكريمهم وتخليد ذكرهم بنحت أسمائهم في ذاكرتنا الجمعية، والدعاء لهم!
فهؤلاء وغيرهم من أمثالهم، كان كل واحد منهم قد أسهم من قريب أو بعيد، في فترة ما من حياته، أو طيلتها، بشيء في سبيل نهضة الوطن، وبناء صرح الأمة الموريتانية، وتوطيد استقلالها، وإرساء دولتها الفتية، وتحقيق ما ننعم به الآن من خير ورقي وأمن، دون أن يعلم أغلبنا متى وأين وكيف تحقق!
قاوموا وهزموا الاستعمار الجديد والاستلاب، وكافحوا الصهيونية والعنصرية والاقطاعية والعبودية والقبلية والجهوية والفساد، ورابطوا في الشدة حتى أطلعوا فجر الحرية والانعتاق والتقدم، فأصبحت موريتانيا تملك زمام أمورها؛ وتعففوا عن الغنيمة وهم فقراء! وحصد غيرهم ما زرعوا.. ولم يجن معظمهم سوى الجحود والحرمان!
… وعصفت حرب الصحراء العبثية المقيتة، وانقلاب 10 يوليو الرجعي بكياننا الفتي الغض، وجاءا على الرطب واليابس.. فتهنا ثلاثين سنة ظُنَّ بعدها أن لن تقوم لنا قائمة أبدا. لكن سرعانما نهضنا من كبوتنا من جديد، فأعدنا لحمة المجتمع، وبنينا وأعلينا صرح الدولة والوطن، ورفعنا رايتهما خفاقة عالية بألوانها الزاهية بين الأمم، وأرسينا دعائم الحرية والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة!
اتفقنا واختلفنا، التقينا وافترقنا، اتحدنا وتصارعنا. لكن معظم ذلك جرى عن حسن نية، وفي سبيل عزة الوطن. كان لدينا شأن مشترك يجمعنا ويوحدنا ويلهمنا، هو الوطنية.. حب الوطن، والإيمان به، الذي يعرف اليوم تراجعا رهيبا بين الناس، لحساب مفاهيم و”قيم” أخرى لم تكن موجودة أو معتبرة يومئذ. ولم نختلف يوما أو نتصارع كما تتصارع ذئاب ودببة المافيا على الغنائم الحرام!
وبصفتنا بشرا، كانت لنا أخطاء تتفاوت حظوظنا فيها، ولعل أعظمها: تأييد انقلاب يوليو والمشاركة فيه؛ عدم دحض وإدانة الأحداث العنصرية المقيتة التي عصفت ببلادنا، ومجاملة الشرائحية العنصرية الهدامة؛ مهادنة التطبيع؛ معارضة وخذلان حركتي 3 و6 أغسطس المجيدتين حنينا إلى ماض رجعي أو شيما لبروق ربيع عربي كاذب؛ وقتل النقد والنقد الذاتي!
ترى، هل لي أن أكرر من جديد، وأعيد، في خضم أفول هذا الجيل، ما قلته مرارا منذ سنوات: “أولم يان لهذه البقية أن تدَّكر قبل الغروب، وتقيم الجدار (جدار الذاكرة) قبل أن ينقض”.(1)
ثلاثة من زعماء ورواد هذه البقية قضوا نحبهم هذه الأيام هم على التوالي: الدكتور حبيب الله بن عبدو، الأستاذ محمد يحظيه ولد ابريد الليل، الأستاذ أحمد ولد الوافي. عرفتهم جميعا وصحبتهم منذ ضحى الستينيات، كنا أخلاء. وكان لدينا كثير نشترك فيه ونعمل ونضحي من أجله جنبا إلى جنب، ولدينا ما نختلف حوله. ولم يفسد خلافنا للود قضية؛ بل ظلت صداقتنا قوية وراسخة. كنت حديث العهد بالدكتور حبيب الله والأستاذ محمد يحظيه. كان لدى كل واحد منهما ما يريد قوله (حبيب الله عبر كتابه الذي صدر بعضه، ومحمد يحظيه عبر طرق أخرى) ونريد سماعه منه عن كثب حول تجربته وتجربة هذا الجيل الغنية. ولكن هيهات! لقد احترقت المكتبات! {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين}!
وحدثنا السيد مدير قناة الموريتانية عن برنامجها التاريخي الضخم “على هامش التاريخ” الذي كان يمثل لدى رئيس الجمهورية “مشروعا ضخما لتوثيق وكتابة التاريخ المعاصر للدولة الموريتانية” وقُطِعت أشواط مهمة في إعداده بأوامر من رئيس الجمهورية وتحت إشرافه مع الأستاذ محمد يحظيه ولد ابريد الليل، ولكن لم يكتب له التنفيذ مع الأسف، فتضاعفت حسرتنا على وفاة الفقيد وعلى فوات هذه الفرصة الإعلامية الثمينة! ذلك أن هذا البرنامج؛ رغم ما يثيره من تساؤلات حول انحياز الدولة لطرف سياسي دون الأطراف الأخرى، ومحاولتها “هيكلة” التاريخ وهو شَمُوس! كان سيسهم – لا محالة- في تحريك المياه الراكدة، ويزود المشاهدين بكثير من المعلومات التاريخية والأدبية، مع قراءة الأستاذ الغنية والمتميزة لتلك المعلومات!
فتعازينا ومواساتنا للوطن والشعب وللأسر الكريمة الثلاث في رزء هؤلاء الرواد العظام الذين نتضرع إلى الله عز وجل أن يرحمهم برحمته الواسعة، ويسكنهم فسيح جناته، ويمنحنا وذويهم الصبر والسلوان ويعظم أجر أهليهم ويبارك فيهم. إنه سميع مجيب.
محمدٌ ولد إشدو
_____________
1. من تمهيد كتاب “سفارة الأرز” للكاتب. (قريبا في المكتبات بإذن الله).